كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الأولى:
{هِىَ} ضمير عائد إلى ماذا؟ نقول الظاهر أنها عائدة إلى أمر معلوم وهو الأسماء كأنه قال ما هذه الأسماء التي وضعتموها أنتم وهو المشهور، ويحتمل أن يقال هي عائدة إلى الأصنام بأنفسها أي ما هذه الأصنام إلا أسماء، وعلى هذا فهو على سبيل المبالغة والتجوز، يقال لتحقير إنسان ما زيد إلا اسم وما الملك إلا اسم إذا لم يكن مشتملًا على صفة تعتبر في الكلام بين الناس، ويؤيد هذا القول قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء} [يوسف: 40] أي ما هذه الأصنام إلا أسماء.
المسألة الثانية:
ما الفائدة في قوله: {سَمَّيْتُمُوهَا} مع أن جميع الأسماء وضعوها أو بعضها هم وضعوها ولم ينكر عليهم؟ نقول المسألة مختلف فيها ولا يتم الذم إلا بقوله تعالى: {مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان} وبيانه هو أن الأسماء إن أنزلها الله تعالى فلا كلام فيها، وإن وضعها للتفاهم فينبغي أن لا يكون في ضمن تلك الفائدة مفسدة أعظم منها لكن إيهام النقص في صفات الله تعالى أعظم منها، فالله تعالى ما جوّز وضع الأسماء للحقائق إلا حيث تسلم عن المحرم، فلم يوجد في هذه الأسماء دليل نقلي ولا وجه عقلي، لأن ارتكاب المفسدة العظيمة لأجل المنفعة القليلة لا يجوزه العاقل، فإذًا {مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان} ووضع الاسم لا يكون إلا بدليل نقلي أو عقلي، وهو أنه يقع خاليًا عن وجوه المضار الراجحة.
المسألة الثالثة:
كيف قال: {سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ} مع أن هذه الأسامي لأصنامهم كانت قبلهم؟ نقول فيه لطيفة وهي أنهم لو قالوا ما سميناها، وإنما هي موضوعة قبلنا، قيل لهم كل من يطلق هذه الألفاظ فهو كالمبتدىء الواضع، وذلك لأن الواضع الأول لهذه الأسماء لما لم يكن واضعًا بدليل عقلي لم يجب اتباعه فمن يطلق اللفظ لأن فلانًا أطلقه لا يصح منه كما لا يصح أن يقول أضلني الأعمى ولو قاله لقيل له بل أنت أضللت نفسك حيث اتبعت من عرفت أنه لا يصلح للاقتداء به.
المسألة الرابعة:
الأسماء لا تسمى، وإنما يسمى بها فكيف قال: {سَمَّيْتُمُوهَا}؟ نقول عنه جوابان أحدهما: لغوي وهو أن التسمية وضع الاسم فكأنه قال أسماء وضعتموها فاستعمل سميتموها استعمال وضعتموها، ويقال سميته زيدًا وسميته يزيد فسميتموها بمعنى سميتم بها وثانيهما: معنوي وهو أنه لو قال أسماء سميتم بها لكان هناك غير الاسم شيء يتعلق به الباء في قوله: {بِهَا} لأن قول القائل سميت به يستدعي مفعولًا آخر تقول سميت بزيد ابني أو عبدي أو غير ذلك فيكون قد جعل للأصنام اعتبارًا وراء أسمائها، وإذا قال: {إِنْ هي إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} أي وضعتموها في أنفسها لا مسميات لها لم يكن ذلك فإن قيل هذا باطل بقوله تعالى: {وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران: 36] حيث لم يقل وإني سميتها بمريم ولم يكن ما ذكرت مقصودًا وإلا لكانت مريم غير ملتفت إليها كما قلت في الأصنام؟ نقول بينهما بون عظيم وذلك لأن هناك قال: {سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} فذكر المفعولين فاعتبر حقيقة مريم بقوله: {سَمَّيْتُهَا} واسمها بقوله: {مَرْيَمَ} وأما هاهنا فقال: {إِنْ هي إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} أي ما هناك إلا أسماء موضوعة فلم تعتبر الحقيقة هاهنا واعتبرت في مريم.
المسألة الخامسة:
{مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان} على أي وجه استعملت الباء في قوله: {بِهَا مِن سلطان}؟ نقول كما يستعمل القائل ارتحل فلان بأهله ومتاعه، أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع كذا ههنا.
ثم قال تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَمَا تَهْوَى الأنفس وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرئ {إِن تَتَّبِعُونَ} بالتاء على الخطاب، وهو ظاهر مناسب لقوله تعالى: {أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ} على المغايبة وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون الخطاب معهم لكنه يكون التفاتًا كأنه قطع الكلام معهم، وقال لنبيه: إنهم لا يتبعون إلا الظن، فلا تلتفت إلى قولهم ثانيهما: أن يكون المراد غيرهم وفيه احتمالان أحدهما: أن يكون المراد آباءهم وتقديره هو أنه لما قال: {سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ} كأنهم قالوا هذه ليست أسماء وضعناها نحن، وإنما هي كسائر الأسماء تلقيناها ممن قبلنا من آبائنا فقال وسماها آباؤكم وما يتبعون إلا الظن، فإن قيل كان ينبغي أن يكون بصيغة الماضي، نقول وبصيغة المستقبل أيضًا كأنه يفرض الزمان بعد زمان الكلام كما في قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18].
ثانيهما: أن يكون المراد عامة الكفار كأنه قال: إن يتبع الكافرون إلا الظن.
المسألة الثانية:
ما معنى الظن وكيف ذمهم به وقد وجب علينا اتباعه في الفقه وقال صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي»؟ نقول أما الظن فهو خلاف العلم وقد استعمل مجازًا مكان العلم والعلم مكانه، وأصل العلم الظهور ومنه العلم والعالم وقد بينا في تفسير العالمين أن حروف ع ل م في تقاليبها فيها معنى الظهور، ومنها لمع الآل إذا ظهر وميض السراب ولمع الغزال إذا عدا وكذا النعام وفيه الظهور وكذلك علمت، والظن إذا كان في مقابلة العلم ففيه الخفاء ومنه بئر ظنون لا يدري أفيها ماء أم لا، ومنه الظنين المتهم لا يدري ما يظن، نقول يجوز بناء الأمر على الظن الغالب عند العجز عن درك اليقين والاعتقاد ليس كذلك لأن اليقين لم يتعذر علينا وإلى هذا إشارة بقول {وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى} [النجم: 23] أي اتبعوا الظن، وقد أمكنهم الأخذ باليقين وفي العمل يمتنع ذلك أيضًا.
المسألة الثالثة:
{مَا} في قوله تعالى: {وَمَا تَهْوَى الأنفس} خبرية أو مصدرية؟ نقول فيه وجهان أحدهما: مصدرية كأنه قال: إن يتبعون إلا الظن وهوى الأنفس، فإن قيل ما الفائدة في العدول عن صريح المصدر إلى الفعل مع زيادة ما وفيه تطويل؟ نقول فيه فائدة، وإنها في أصل الوضع ثم نذكرها هنا فنقول إذا قال القائل أعجبني صنعك يعلم من الصيغة أن الإعجاب من مصدر قد تحقق وكذلك إذا قال أعجبني ما تصنع يعلم أن الإعجاب من مصدر هو فيه فلو قال أعجبني صنعك وله صنع أمس وصنع اليوم لا يعلم أن المعجب أي صنع هو إذا علمت هذا فنقول هاهنا قوله: {وَمَا تَهْوَى الأنفس} يعلم منه أن المراد أنهم يتبعون ما تهوى أنفسهم في الحال والاستقبال إشارة إلى أنهم ليسوا بثابتين على ضلال واحد وما هوت أنفسهم في الماضي شيئًا من أنواع العبادة فالتزموا به وداموا عليه بل كل يوم هم يستخرجون عبادة، وإذا انكسرت أصنامهم اليوم أتوا بغيرها غدًا ويغيرون وضع عبادتهم بمقتضى شهوتهم اليوم ثانيهما: أنها خبرية تقديره، والذي تشتهيه أنفسهم والفرق بين المصدرية والخبرية أن المتبع على الأول الهوى وعلى الثاني مقتضى الهوى كما إذا قلت أعجبني مصنوعك.
المسألة الرابعة:
كيف قال: {وَمَا تَهْوَى الأنفس} بلفظ الجمع مع أنهم لا يتبعون ما تهواه كل نفس فإن من النفوس ما لا تهوى ما تهواه غيرها؟ نقول هو من باب مقابلة الجمع بالجمع معناه اتبع كل واحد منهم ما تهواه نفسه يقال خرج الناس بأهليهم أي كل واحد بأهله لا كل واحد بأهل الجمع.
المسألة الخامسة:
بيّن لنا معنى الكلام جملة، نقول قوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَمَا تَهْوَى الأنفس} أمران مذكوران يحتمل أن يكون ذكرهما لأمرين تقدير بين يتبعون الظن في الاعتقاد ويتبعون ما تهوى الأنفس في العمل والعبادة وكلاهما فاسد، لأن الاعتقاد ينبغي أن يكون مبناه على اليقين، وكيف يجوز اتباع الظن في الأمر العظيم، وكلما كان الأمر أشرف وأخطر كان الاحتياط فيه أوجب وأحذر، وأما العمل فالعبادة مخالفة الهوى فكيف تنبئ على متابعته، ويحتمل أن يكون في أمر واحد على طريقة النزول درجة درجة فقال: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَمَا تَهْوَى الأنفس} أي وما دون الظن لأن القرونة تهوى ما لا يظن به خير وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى} إشارة إلى أنهم على حال لا يعتد به لأن اليقين مقدور عليه وتحقق بمجيء الرسل والهدى فيه وجوه ثلاثة الأولى: القرآن الثاني: الرسل الثالث: المعجزات.
{أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)}.
المشهور أن أم منقطعة معناه: أللإنسان ما اختاره واشتهاه؟ وفي {مَا تمنى} وجوه الأولى: الشفاعة تمنوها وليس لهم شفاعة الثاني: قولهم {وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50] الثالث: قول الوليد بن المغيرة {لأَوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77] الرابع: تمنى جماعة أن يكونوا أنبياء ولم تحصل لهم تلك الدرجة الرفيعة، فإن قلت هل يمكن أن تكون أم هاهنا متصلة؟ نقول نعم والجملة الأولى حينئذ تحتمل وجهين أحدهما: أنها مذكورة في قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى} [النجم: 21] كأنه قال ألكم الذكر وله الأنثى على الحقيقة أو تجعلون لأنفسكم ما تشتهون وتتمنون وعلى هذا فقوله تلك {إِذًا قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 22] وغيرها جمل اعترضت بين كلامين متصلين ثانيهما: أنها محذوفة وتقرير ذلك هو أنا بينا أن قوله: {أَفَرَءيْتُمُ} [النجم: 19] لبيان فساد قولهم، والإشارة إلى ظهور ذلك من غير دليل، كما إذا قال قائل فلان يصلح للملك فيقول آخر لثالث، أما رأيت هذا الذي يقوله فلان ولا يذكر أنه لا يصلح للملك، ويكون مراده ذلك فيذكره وحده منبهًا على عدم صلاحه، فههنا قال تعالى: {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى} أي يستحقان العبادة أم للإنسان أن يعبد ما يشتهيه طبعه وإن لم يكن يستحق العبادة، وعلى هذا فقوله أم للإنسان أي هل له أن يعبد بالتمني والاشتهاء، ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَمَا تَهْوَى الأنفس} أي عبدتم بهوى أنفسكم ما لا يستحق العبادة فهل لكم ذلك.
{فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)}.
ثم قال تعالى: {فَلِلَّهِ الآخرة والأولى} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في تعلق الفاء بالكلام وفيه وجوه الأولى: أن تقديره الإنسان إذا اختار معبودًا في دنياه على ما تمناه واشتهاه فلله الآخرة والأولى يعاقبه على فعله في الدنيا وإن لم يعاقبه في الدنيا فيعاقبه في الآخرة، وقوله تعالى: {وَكَمْ مّن مَّلَكٍ} إلى قوله تعالى: {لاَ تُغْنِى شفاعتهم} [النجم: 26] يكون مؤكدًا لهذا المعنى أي عقابهم يقع ولا يشفع فيهم أحد ولا يغنيهم شفاعة شافع الثاني: أنه تعالى لما بيّن أن اتخاذ اللاّت والعزى باتباع الظن وهوى الأنفس كأنه قرره وقال إن لم تعلموا هذا فلله الآخرة والأولى، وهذه الأصنام ليس لها من الأمر شيء فكيف يجوز الإشراك وقوله تعالى: {وَكَمْ مّن مَّلَكٍ} على هذا الوجه جواب كلام كأنهم قالوا لا نشرك بالله شيئًا، وإنما هذه الأصنام شفعاؤنا فإنها صورة ملائكة مقربين، فقال: {وَكَمْ مّن مَّلَكٍ في السموات لاَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئًا} الثالث: هذه تسلية كأنه تعالى قال ذلك لنبيه حيث بيّن رسالته ووحدانية الله ولم يؤمنوا فقال لا تأس فللَّه الآخرة والأولى أي لا يعجزون الله الرابع: هو ترتيب حق على دليله بيانه هو أنه تعالى لما بيّن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى} [النجم: 4] إلى آخره وبيّن بعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوحيد، قال إذاعلمتم صدق محمد ببيان رسالة الله تعالى: فللَّه الآخرة والأولى لأنه صلى الله عليه وسلم أخبركم عن الحشر فهو صادق الخامس: هو أن الكفار كانوا يقولون للمؤمنين أهؤلاء أهدى منا؟ وقالوا {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] فقال تعالى: إن الله اختار لكم الدنيا وأعطاكم الأموال ولم يعط المؤمنين بعض ذلك الأمر بل قلتم: لو شاء الله لأغناهم وتحققتم هذه القضية {فَلِلَّهِ الآخرة والأولى} قولوا في الآخرة ما قلتم في الدنيا يهدي الله من يشاء كما يغني الله ما يشاء.
المسألة الثانية:
{الأخرة} صفة ماذا؟ نقول صفة الحياة أو صفة الدار وهي اسم فاعل من فعل غير مستعمل، تقول أخرته فتأخر وكان من حقه أن تقول فأخر كما تقول غبرته فغبر فمنعت منه سماعًا، ولهذا البحث فائدة ستأتي، إن شاء الله.
المسألة الثالثة:
{الأولى} فعلى للتأنيث، فالأول إذن أفعل صفة.
وفيه مباحث:
البحث الأول: لابد من فاعل أخذ منه الأفعل والفعلى فإن كل فعلى وأفعل للتأنيث والتذكير له أصل فليؤخذ منه كالفضلى والأفضل من الفاضلة والفاضل، فما ذلك؟ نقول هاهنا أخذ من أصل غير مستعمل كما قلنا إن الآخر فاعل من فعل غير مستعمل، وسبب ذلك هو أن كل فعل مستعمل فله آخر، وذلك لأن له ماضيًا فإذا استعملت ماضيه لزم فراغ الفعل وإلا لكان الفاعل بعد في الفعل فلا يكون ماضيًا فإنك لا تقول لمن هو بعد الأكل أكل إلا متجوزًا عندما يبقى له قليل، فيقول أكل إشارة إلى أن ما بقي غير معتد به وتقول لمن قرب من الفراغ فرغت فيقول فرغت بمعنى أن ما بقي قليل لا يعتد به فكأني فرغت، وأما الماضي في الحقيقة لا يصح إلا عند تمام الشيء والفراغ عنه فإذًا للفعل المستعمل آخر فلو كان لقولنا آخر على وزن فاعل فعل هو آخر يأخر كأمر يأمر لكان معناه صدر مصدره كجلس معناه صدر الجلوس منه بالتمام والكمال فكان ينبغي أن القائل إذا قال فلان آخر كان معناه وجد منه تمام الآخرية وفرغ منها فلا يكون بعد ما يكون آخر لكن تقدم أن كل فعل فله آخر بعده لا يقال يشكل بقولنا تأخر فإن معناه صار آخرًا لأنا نقول وزن الفعل ينادي على صحة ما ذكرنا فإنه من باب التكلف والتكبر إذا استعمل في غير المتكبر أي يرى أنه آخر، وليس في الحقيقة كذلك، إذا علمت هذا فنقول الآخر فاعل ليس له فعل، ومبالغته بأفعل وهو كقولنا أأُخر، فنقلت الهمزة إلى مكان الألف، والألف إلى مكان الهمزة، فصارت الألف همزة والهمزة ألفًا، ويدل عليه التأويل في المعنى، فإن آخر الشيء جزء منه متصل به والآخر مباين عنه منفصل والمنفصل بعد المتصل، والآخر أشد تأخرًا عن الشيء من آخره، والأول أفعل ليس له فاعل، وليس له فعل، والأول أبعد عن الفعل من الآخر، وذلك لأن الفعل الماضي علم له آخر من وصفه بالماضي ولولا ذلك الوصف لما علم له آخر، وأما الفعل لتفسير كونه فعلًا علم له أول لأن الفعل لا بد له من فاعل يقوم به، أو يوجد منه فإذا الفاعل أولًا ثم الفعل، فإذا كان الفاعل أول الفعل كيف يكون الأول له فعل يوجد منه فلا فعل له ولا فاعل فلا يقال آل الشيء بمعنى سبق كما يقال قال من القول، أو نال من النيل، لا يقال إن قولنا سبق أخذ منه السابق ومن السابق الأسبق مع أن الفاعل يسبق الفعل، وكذلك يقال تقدم الشيء مع أن الفاعل متقدم على الفعل إلى غير ذلك، نقول أما تقدم قد مضى الجواب عنه في تأخر، وأما سبق يقول القائل سابقته فسبقته فتجيب عنه بأن ذلك مفتقر إلى أمر يصدر من فاعل فالسابق إن استعمل في الأول فهو بطريق المشابهة لا بطريق الحقيقة، والفاعل أول الفعل بمعنى قبل الفعل، وليس سابق الفعل لأن الفاعل والفعل لا يتسابقان فالفاعل لا يسبقه، والذي يوضح ما ذكرنا أن الآخر أبعد من الأول عن الفعل بخلاف الآخر، وما يقال إن أول بمعنى جعل الآخر أولًا لاستخراج معنى من الكلام فبعيد وإلا لم يكن آخر دونه في إفادة ذلك، بل التأويل من آل شيء إذا رجع أي رجعه إلى المعنى المراد وأبعد من اللفظين قبل وبعد فإن الآخر فاعل من غير فعل والأول أفعل من غير فاعل ولا فعل، وقبل وبعد لا فاعل ولا أفعل فلا يفهم من فعل أصلًا لأن الأول أول لما فيه من معنى قبل وليس قبل قبلًا لما فيه من معنى الأول والآخر آخر لما فيه من معنى بعد، وليس بعد بعدًا لما فيه من معنى الآخر يدلك عليه أنك تعلل أحدهما بالآخر ولا تعكسه فتقول هذا آخر من جاء لأنه جاء بعد الكل ولا تقول هو جاء بعد الكل لأنه آخر من جاء، ويؤيده أن الآخر لا يتحقق إلا ببعدية مخصوصة وهي التي لا بعدية بعدها وبعد ليس لا يتحقق إلا بالآخر فإن المتوسط بعد الأول ليس بآخر.